الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)} قوله عز وجل: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} أي في الدنيا أنهم من شركائي {قال الذين حق عليم القول} أي وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة {ربنا هؤلاء الذي أغوينا} أي دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع {أغويناهم كما غوينا} أي أضللناهم كما ضللنا {تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} معناه تبرأ بعضهم من بعض وصاروا أعداء {وقيل} يعني الكفار {ادعوا شركاءكم} أي الأصنام لتخلصكم من العذاب {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} أي لم يجيبوهم {ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة {ويوم يناديهم} أي يسأل الكفار {فيقول ما أجبتم المرسلين} أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين {فعميت عليهم} أي خفيت واشتبهت عليهم {الأنباء} يعني الأخبار والأعذار والحجج {يومئذ} فلم يكن لهم عذر ولا حجة {فهم لا يتساءلون} أي لا يجيبون ولا يحتجون وقيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضاً {فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين} أي من السعداء الناجين وعسى من الله واجب. قوله تعالى {وربكم يخلق ما يشاء ويختار} نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق وله أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة {ما كان لهم الخيرة} أي ليس لهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله. وقيل معناه ويختار الله ما كان هو الأصلح والخير لهم فيه، ثم نزه الله تعالى نفسه فقال {سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن} أي تخفي {صدورهم وما يعلنون} أي يظهرون {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة} أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة {وله الحكم} أي فصل القضاء بين الخلق وقال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاوة {وإليه ترجعون} قوله عز وجل {قل} أي قل يا محمد لأهل مكة {أرأيتم} يعني أخبروني {إن جعل الله عليكم الليل سرمداً} أي دائماً {إلى يوم القيامة} لا نهار فيه {من إله غير الله يأتيكم بضياء} أي بنهار تطلبون فيه المعيشة {أفلا تسمعون} أي سماع فهم وقبول {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة} أي لا ليل فيه {من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون} أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة الله تعالى على الخالق أن جعل الله والنهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل فلا بد منهما فأما من الجنة فلا تعب ولا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل ولذلك يدوم لهم الضياء أبداً فبين الله تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار} أي يتعاقبان بالظلمة والضياء {لتسكنوا فيه} أي في الليل {ولتبتغوا من فضله} أي بالنهار {ولعلكم تشكرون} أي نعم الله فيهما {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ {ونزعنا} يعني أخرجنا وقيل ميزنا {من كل أمة شهيداً} يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصح لهم {فقلنا} يعني للأمم المكذبة لرسلهم {هاتوا برهانكم} أي حجتكم بأن معي شريكاً {فعلموا أن الحق لله} أي التوحيد لله {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي يختلقون في الدنيا من الكذب على الله.
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} قوله عز وجل: {إن قارون كان من قوم موسى} قيل كان ابن عم موسى لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل كان عم موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري {فبغى عليهم} قيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم وقيل بغى عليهم بكثرة ماله وقيل زاد في طول ثيابه شراً (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثيابه خيلاء» أخرجاه في الصحيحين وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه} جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب وقيل مفاتحه يعني خزائنه {لتنوء بالعصبة أولي القوة} معناه لثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لتثقلها. قيل العصبة ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وقال ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين. وقيل إلى السبعين قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال وقيل كان قارون أينما ذهب تحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما كثرت وثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت لجعلها من جلود البقر كل مفتاح على قدر الأصبح وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً {إذ قال له قومه لا تفرح} يعني لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح {إن الله لا يحب الفرحين} يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم قيل إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح ولقد أحسن من قال: أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} يعني اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة وصلة الرحم وقيل لا تنسى صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة. عن عمر بن ميمون الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» هذا حديث مرسل وعمرو بن ميمون لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم {وأحسن كما أحسن الله إليك} أي أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته وقيل أحسن إلى الناس {ولا تبغ} أي ولا تطلب {الفساد في الأرض} وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض {إن الله لا يحب المفسدين قال} يعني قارون {إنما أوتيته على علم عندي} أي على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. وقيل هو علم الكيمياء وكان موسى يعلمه فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يصنع من الرصاص فضة ومن النحاس ذهباً وكان ذلك سبب كثرة أمواله وقيل كان علمه حسن التصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب قال الله عز وجل {ألم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً} أي للأموال {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} قيل معناه أن الله تعالى إذا أراد عقاب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم لأنه عالم بحالهم وقيل لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وقيل لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قوله عز وجل {فخرج على قومه في زينته} قيل: خرج هو وقومه وهم سبعون ألفاً عليهم الثياب الحمر والصفر والمعصفرات وقيل خرج على براذين بيض عليها سرج الأرجوان. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب وعليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهم الحلي والثياب الحمر وهن على البغال الشهب {قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} أي من المال.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} {وقال الذين أوتوا العلم} أي بما وعد الله في الآخرة وقال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون {ويلكم ثواب الله} أي ما عند الله من الثواب والخير {خير لمن آمن} أي صدق بتوحيد الله {وعمل صالحاً} أي ذلك خير مما أوتي قارون في الدنيا {ولا يلقاها إلا الصابرين} أي لا يؤتى الأعمال الصالحة إلا الصابرون وقيل لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله {ويلكم ثواب الله خير} {إلا الصابرون} أي على طاعة الله وعن زينة الدنيا. قوله تعالى {فخسفنا به وبداره الأرض}. ذكر قصة قارون: قال أهل العلم بالأخبار والسير: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم. وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي. فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى فقال إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إ ذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون، وهي رئاسة المذبح فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون فيضعها على المذبح فنزل نار من السماء فتأكله فوجد قارون من ذلك في نفسه فأتى إلى موسى فقال له موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ التوراة لا صبر لي على هذا فقال أما أنا ما جعلتها لهارون بل الله جعلها له فقال له قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فحزمها وألقاها في قبته التي يتعبد فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون ترى هذا فقال له قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل لها باباً من الذهب. وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه. قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار وعلى كل ألف درهم عنها درهم وكل ألف شاة عنها شاة وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئاً كثيراً فلم تسمح نفسه بذلك فجمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت قال آمركم أن تجيئوا فلانة البغي وتجعلوا عليكم لها جعلاً على أن تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم. وقيل طستاً من ذهب وقيل قال لها قارون أنزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً وإذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت فقال قارون وإن كنت أنت؟ قال: وأن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي قال: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا والله ولكن قارون جعل لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي. ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله إليه أني أمرت الأرض أن تعطيك فمرها بما شئت فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم. وقيل كان على سرير وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وأصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون الله والرحم، حتى قيل إنه ناشده أربعين مرة. وقيل سبعين مرة وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد. قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى {فما كان له من فئة} يعني جماعة {ينصرونه من دون الله} يعني يمنعونه من الله {وما كان من المنتصرين} من الممتنعين مما نزل به من الخسف {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} يعني صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني {يقولون ويكأن الله} ألم تعلم وقيل ألم تر. وقيل هي كلمة تقرير معناها أما ترى صنع الله وإحسانه وقيل ويك، بمعنى ويلك اعلم أن الله. وروي أن وي مفصوله من كأن والمعنى أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وكأن معناها أظن وأقدر أن الله {يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} قال ابن عباس أي يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء {لولا أن من الله علينا} أي بالإيمان {لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} قوله عز وجل: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض} أي استكباراً عن الإيمان وقيل علواً واستطالة على الناس وتهاوناً بهم وقيل يطلبون الشرف والعز عند ذي سلطان وعن علي أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل المقدرة {ولا فساداً} قيل الذين يدعون إلى غير عبادة الله تعالى وقيل أخذ أموال الناس بغير حق وقيل العمل بالمعاصي {والعاقبة للمتقين} أي العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه وقيل عاقبة المتقين الجنة {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} تقدم تفسيره. قوله تعالى {إن الذي فرض عليك القرآن} أي أنزل عليك القرآن وقيل معناه أوجب عليك العمل بالقرآن {لرادك إلى معاد} قال ابن عباس إلى مكة. أخرجه البخاري عنه قال القتيبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار على غير الطريق مخالفة الطلب فلما أمن رجع في الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: أتشتاق إلى بلدك؟ قال نعم قال: فإن الله تعالى يقول الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية. وقال ابن عباس أيضاً لرادك إلى الموت وقيل إلى القيامة، وقيل إل الجنة {قل ربي أعلم من جاء بالهدى} هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنك لفي ضلال مبين فقال الله تعالى لهم {ربي أعلم من جاء بالهدى} يعني نفسه {ومن هو في ضلال مبين} يعني المشركين ومعناه هو أعلم بالفريقين. قوله عز وجل {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب} أي يوحى إليك القرآن {إلا رحمة من ربك} فأعطاك القرآن {فلا تكونن ظهيراً} أي معيناً {للكافرين} على دينهم ذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكره نعمه عليه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه {ولا يصدنك عن آيات الله} يعني القرآن {بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك} إلى معرفته وتوحيده {ولا تكونن من المشركين} قال ابن عباس: الخطاب في الظاهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أهل دينه أي ولا تظاهر الكفار ولا توافقهم {ولا تدع مع الله إلهاً آخر} معناه أنه واجب على الكل إلا أنه خاطبه به مخصوصاً لأجل التعظيم. فإن قلت النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من أن يدعو مع الله إلهاً آخر فما فائدة هذا النهي. قلت الخطاب معه والمراد به غيره وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلاً على أمورك كلها ولا تعتمد على غيره {لا إله إلا هو كل شيء هالك} أي فانٍ {إلا وجهه} أي إلا هو والوجه يعبر به عن الذات وقيل معناه إلا ما إريد به وجهه لأن عمل كل شيء أريد به غير الله فهو هالك {له الحكم} أي فصل القضاء بين الخلق {وإليه ترجعون} أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم والله أعلم بمراده.
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} قوله عز وجل {الم أحسب الناس} أي أظن الناس {أن يتركوا} أي بغير اختبار وابتلاء {أن} أي بأن {يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم كلا لنختبرنهم لنبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب. قيل: نزلت هذه الآية في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فقاتلهم الكفار، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل الله هاتين الآيتين. وقال ابن عباس: أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم. وقيل في عمار كان يعذب في الله تعالى وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين يوم بدر فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع أبواه وامرأته فأنزل الله هذه الآية ثم عزاهم فقال تعالى {ولقد فتنا الذين قبلهم} يعني الأنبياء فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب {فليعلمن الله الذين صدقوا} أي في قولهم {وليعلمن الكاذبين} والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار ومعنى الآية فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه. وقيل إن آثار أفعال الحق صفة يظهر فيها كل ما يقع وما هو واقع. قوله تعالى {أم حسب الذين يعملون السيئات} يعني الشرك {أن يسبقونا} أي يعجزونا فلا نقدر على الانتقام منهم {ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله} قال ابن عباس من كان يخشى العبث والحساب وقيل من كان يطمع في ثواب الله {فإن أجل الله لآت} يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب. وقيل يوم القيامة لكائن والمعنى أن من يخشى الله ويؤمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم {وهو السميع العليم} أي يعلم ما يعمل العباد من الطاعة والمعصية فيثيبهم أو يعاقبهم أو يعفو. قوله تعالى {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} أي له ثوابه وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفى والجهاد هو الصبر على الأعداء والشدة وقد يكون في الحرب وقد يكون على مخالفة النفس {إن الله لغني عن العالمين} أي عن أعمالهم وعبادتهم وفيه بشارة وتخويف أما البشارة فلأنه إذا كان غنياً عن الأشياء فلو أعطي جميع ما خلقه لعبد من عبيده لا شيء عليه لاستغنائه عنه. وهذا يوجب الرجاء التام وأما التخويف فلأن الله إذا كان غنياً عن العالمين فلو أهلكهم بعذابه فلا شيء عليه لاستغنائه عنهم {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم} أي لنطلبنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا. قوله عز وجل {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} معناه براً بهما وعطفاً عليهم والمعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما ما يحسن نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص. وقال ابن إسحاق: سعد بن مالك الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأبيه. قالت له أمه: ما هذا الذي أحدثت والله ما آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ويقال يا قاتل أمه ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت كذلك يوماً آخر وليلة فجاءها فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك فذلك قوله تعالى {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} وفي الحديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» ثم أوعد بالمصير إليه فقال {إلي مرجعكم فأنبئكم} أي فأخبركم {بما كنتم تعملون} أي بصالح أعمالكم وسيئاتها أي فأجازيكم عليها.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} أي في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء وقيل في مدخل الصالحين وهو الجنة. قوله تعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي} يعني أصابه بلاء من الناس افتتن {في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة والمعنى أنه جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر {ولئن جاء نصر من ربك} أي فتح ودولة للمؤمنين {ليقولن} أي هؤلاء المنافقون للمؤمنين {إنا كنا معكم} أي على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأكذبهم الله تعالى فقال {أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} أي من الإيمان والنفاق {وليعلمن الله الذين آمنوا} أي صدقوا فثبتوا على الإيمان والإسلام عند البلاء. {وليعلمن المنافقين} أي بترك الإسلام عند البلاء قيل نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال ابن عباس: نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر وهم الذين نزلت فيهم {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} وقيل هذه الآيات العشر من أول السورة إلى ها هنا مدنية وباقي السورة مكية {وقال الذين كفروا} يعني من أهل مكة قيل قاله أبو سفيان {للذين آمنوا} أي من قريش {اتبعوا سبيلنا} يعني ديننا وملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم فذلك قوله {ولنحمل خطاياكم} أي أوزاركم والمعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فأكذبهم الله عز وجل بقوله {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} في قولهم نحمل خطاياكم {وليحملن أثقالهم} أي أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم {وأثقالاً مع أثقالهم} أي أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزار أنفسهم. فإن قلت قد قال أولاً وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء وقال ها هنا وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم فكيف الجمع بينهما. قلت: معناه إنهم لا يرفعون عنهم خطيئة بل كل واحد يحمل خطيئة نفسه ورؤساء الضلال يحملون أوزارهم ويحملون أوزاراً بسبب إضلال غيرهم فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} أي سؤال توبيخ وتقريع لأنه تعالى عالم بأعمالهم وافترائهم. قوله تعالى {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث} أي فأقام {فيهم} يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده {ألف سنة إلا خمسين عاماً} فإن قلت فما فائدة هذا الاستثناء وهلا قال تسعمائة وخمسين سنة قلت فيه فائدتان إحداهما: أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه يظن به التقريب فهو كقول القائل عاش فلان مائة سنة فقد يتوهم السائل أنه يقول مائة سنة تقريباً لا تحقيقاً فإن قال مائة سنة إلا شهراً أو إلا سنة زال ذلك التوهم وفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية: هي لبيان أن نوحاً صبر على أذى قومه صبراً كثيراً وأعلى مراتب العدد ألف سنة. وكان المراد التكثير فلذلك أتى بعقد الألف لأنه أعظم وأفخم هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أعلم أن الأنبياء قد ابتلوا قبله وأن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فصبر في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة من آمن بك. قال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس فكان عمره ألفاً وخمسين عاماً. وقيل في عمره غير ذلك. قوله تعالى {فأخذهم الطوفان} أي فأغرقهم {وهم ظالمون} قال ابن عباس مشركون {فأنجيناهم وأصحاب السفينة} يعني من الغرق {وجعلناهم} يعني السفينة {آية} أي عبرة {للعالمين} قيل إنها بقيت على الجودي مدة مديدة وقيل جعلنا عقوبتهم بالغرق عبرة. قوله تعالى {وإبراهيم} أي وأرسلنا إبراهيم {إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه} أي أطيعوا الله وخافوه {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي ما هو خير لكم مما هو شر لكم ولكنكم لا تعلمون {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً} أي تقولون كذباً وقيل تصنعون أصناماً بأيديكم وتسمونها آلهة {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً} أي لا يقدرون أن يرزقوكم {فابتغوا} أي فاطلبوا {عند الله الرزق} فإنه القادر على ذلك {واعبدوه} أي وحدوه {واشكروا له} لأنه المنعم عليكم الرزق {إليه ترجعون} أي في الآخرة {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} أي مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فأهلكهم الله {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)} قوله تعالى: {أولم يروا} قيل هذه الآيات إلى قوله فما كان جواب قومه يحتمل أن تكون من تمام قول إبراهيم لقومه وقيل إنها وقعت معترضة في قصة إبراهيم وهي في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ومعنى أو لم يروا أو لم يعلموا {كيف يبدئ الله الخلق} أي يخلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة {ثم يعيده} أي في الآخرة عند البعث {إن ذلك على الله يسير} أي الخلق الأول والخلق الثاني {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} أي ثم إن الله الذي خلقهم ينشئهم نشأة ثانية بعد الموت والمعنى فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئاً كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيداً بعد الموت ثانياً {إن الله على كل شيء قدير} أي من البداءة والإعادة {يعذب من يشاء} عدلاً منه {ويرحم من يشاء} تفضلاً {وإليه تقلبون} أي تردون {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} قيل معناه ولا من في السماء بمعجزين والمعنى أنه لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء وقيل معنى قوله ولا في السماء لو كنتم فيها {وما لكم من دون الله من ولي} أي يمنعكم مني {ولا نصير} أي ينصركم من عذابي {والذين كفروا بآيات الله} يعني القرآن {ولقائه} أي البعث {أولئك يئسوا من رحمتي} يعني الجنة {وأولئك لهم عذاب أليم} فهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه السلام فقال تعالى {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه} قال ذلك بعضهم لبعض وقيل قال الرؤساء للأتباع {اقتلوه أو حرقوه} {فأنجاه الله من النار} أي بأن جعلها برداً وسلاماً قيل إن في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} يصدقون {وقال} يعني إبراهيم لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا} أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة وقيل معناه إنكم تتوادون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} تتبرأ الأوثان من عابديها وتتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة {ومأواكم النار} يعني العابدين والمعبودين جميعاً {وما لكم من ناصرين} أي مانعين من عذابه {فآمن له لوط} أي صدقه برسالته لما رأى معجزاته وهو أو من صدق إبراهيم وأما في أصل التوحيد فإنه كان مؤمناً لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر {وقال} يعني إبراهيم {إني مهاجر إلى ربي} إلى حيث أمرني ربي فهاجر من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم هاجر إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر إلى الله تعالى وترك بلده وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه. قيل هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة {إنه هو العزيز} أي الذي لا يغلب والذي يمنعني من أعدائي {الحكيم} الذي لا يأمرني إلا بما يصلحني. قوله تعالى {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} يقال إن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد إبراهيم إلا من نسله {وآتيناه أجره في الدنيا} هو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه ويحبونه ويحبون الصلاة عليه والذرية الطيبة والنبوة من نسله هذا له في الدنيا {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس مثل آدم ونوح. قوله عز وجل {ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة} أي الفعلة القبيحة {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} أي لم يفعلها أحد من قبلكم ثم فسر الفاحشة فقال {أئنكم لتأتون الرجال} يعني أنكم تقضون الشهوة من الرجال {وتقطعون السبيل} وذلك أنهم كانوا يأتون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم لأجل ذلك وقيل معناه تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء {وتأتون في ناديكم المنكر} أي مجالسكم والنادي مجلس القوم ومتحدثهم عن أم هانئ بنت أبي طالب عن النبي صلى الله عليه سلم في قوله وتأتون في ناديكم المنكر قال «كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون منهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب الحذف هو رمي الحصى بين الأصابع قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه قال: أنا أولى به وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم وقيل إنهم كانوا يجامعون بعضهم بعضاً في مجالسهم وقيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وعن عبدالله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض. وقيل كان أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف والرمي بالجلاهق واللوطية {فما كان جواب قومه} أي لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح {إلا أن قالوا} أي استهزاء {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} أي إن العذاب نازل بنا.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} {قال رب انصرني على القوم المفسدين} أي بتحقيق قولي إن العذاب نازل بهم. قوله عز وجل {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} أي من الله بإسحاق ويعقوب {قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية} أي قوم لوط والقرية سدوم {إن أهلها كانوا ظالمين قال} يعني إبراهيم إشفاقاً على لوط وليعلم حاله {إن فيها لوطاً قالوا} أي قالت الملائكة {نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي من الباقين في العذاب {ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم} أي ظنهم من الإنس فخاف عليهم ومعناه أنه جاءه ما ساءه {وضاق بهم ذرعاً} أي عجز عن تدبير أمرهم فحزن لذلك {وقالوا لا تخف} أي من قومك {ولا تحزن} علينا {إنا منجوك وأهلك} أي إنا مهلكوهم ومنجوك وأهلك {إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً} أي عذاباً {من السماء} قيل هو الخسف والحصب بالحجارة {بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها} أي من قريات لوط {آية بينة} أي عبرة ظاهرة {لقوم يعقلون} يعني أفلا يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول قال ابن عباس الآية البينة آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض. قوله تعالى {وإلى مدين} أي وأرسلنا إلى مدين؛ ومدين اسم رجل وقيل اسم المدينة؛ فعلى القول الأول يكون المعنى وأرسلنا إلى ذرية مدين وأولاده؛ وعلى القول الثاني وأرسلنا إلى أهل مدين {أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخرة} أي افعلوا فعل من يرجو اليوم الآخر وقيل معناه اخشوا اليوم الآخر وخافوه {ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبه فأخذتهم الرجفة} أي الزلزلة وذلك أن جبريل صاح فرجفت الأرض رجفة {فأصبحوا في دارهم جاثمين} أي باركين على الركب ميتين {وعاداً وثمود} أي وأهلكنا عاداً وثمود {وقد تبين لكم} يا أهل مكة {من مساكنهم} أي منازلهم بالحجر واليمن {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي عبادتهم لغير الله {فصدهم عن السبيل} أي عن سبيل الحق {وكانوا مستبصرين} أي عقلاء ذوي بصائر. وقيل كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى وهم على باطل وضلالة والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين {وقارون وفرعون وهامان} أي أهلكنا هؤلاء {ولقد جاءهم موسى بالبينات} أي بالدلالات الواضحات {فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين} أي فائتين من عذابنا {فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} وهم قوم لوط رموا بالحصباء وهي الحصى الصغار {ومنهم من أخذته الصيحة} يعني ثمود {ومنهم من خسفنا به الأرض} يعني قارون وأصحابه {ومنهم من أغرقنا} يعني قوم نوح وفرعون وقومه {وما كان الله ليظلمهم} أي بالهلاك {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي بالإشراك.
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء} يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها {كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} لنفسها تأوي إليه وإن بيتها في غاية الضعف والوهن لا يدفع عنها حراً ولا برداً فكذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً. وقيل معنى هذا المثل أن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل العنكبوت تتخذ بيتاً من نسجها بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لأنها لا تضر ولا تنفع {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} أشار إلى ضعفه فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فقد صح أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت وقد تبين أن دينهم أوهن الأديان {لو كانوا يعلمون} أي أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن {إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} هذا توكيد للمثل وزيادة عليه يعني إن الذي يدعون من دونه ليس بشيء {وهو العزيز الحكيم} معناه كيف يجوز للعاقل أن يترك عبادة الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء ويشتغل بعبادة من ليس بشيء أصلاً {وتلك الأمثال} أي الأشباه يعني أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار من هذه الأمة بأحوال كفار الأمم السابقة {نضربها} أي نبينها {للناس} أي لكفار مكة {وما يعقلها إلا العالمون} يعني ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله عز وجل. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية. {وتلك الأمثال نضربها للناس ومايعقلها إلا العالمون} قال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» {خلق الله السموات والأرض بالحق} أي للحق وإظهار الحق {إن في ذلك لآية} أي دلالة {للمؤمنين} على قدرته وتوحيده. وقوله تعالى {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} يعني القرآن {وأقم الصلاة} فإن قلت: لم أمر بهذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط؟ قلت لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة: قلبية وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن اعتقد شيئاً لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمراً فبقي الذكر العبادة البدنية وهما ممكنا التكرار فلذلك أمر بهما {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} أي ما قبح من الأعمال {والمنكر} أي ما لا يعرف في الشرع. قال ابن مسعود وابن عباس في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعداً. وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وقيل من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال: «كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يدع من الفواحش شيئاً إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن صلاته ستنهاه يوماً فلم يلبث أن تاب وحسن حاله» وقيل: معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ومنه قوله: «إن في الصلاة لشغلاً» وقيل أراد بالصلاة القرآن وفيه ضعف لتقدم ذكر القرآن على هذا يكون معناه أن القرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر كما روي عن جابر قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «إن رجل يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته» وفي رواية «أنه قيل يا رسول الله إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه» وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها {ولذكر الله أكبر} أي أنه أفضل الطاعات. عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال بذكر الله» أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد الخدري قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال الذاكرون الله كثيراً قالوا يا رسول الله والغازي في سبيل الله؟ فقال لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختصب في سبيل الله دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منه درجة» (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» يروي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والتشديد أتم يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعياً للأمر والنهي وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله لا يخلطون به غيره (خ) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» وروي «أن أعرابياً قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» وقال ابن عباس: معنى ولذكر الله أكبر ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك مرفوعاً عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه سلم وقال ابن عطاء ولذكر الله أكبر أي لن تبقى معه معصية {والله يعلم ما تصنعون} يعني لا يخفى عليه شيء من أمركم.
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)} قوله عز وجل: {ولا تجادلوا أهل الكتاب} أي ولا تخاصموهم {إلا بالتي هي أحسن} أي القرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد بهم من قبل الجزية منهم {إلا الذين ظلموا منهم} يعني أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب فافجؤوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ومعنى الآية إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر وقيل هم أهل الحرب ومن لا عهد له. وقيل الآية منسوخة بآية السيف {وقولوا} أي للذين قبلوا الجزية إذا حدثوكم بشيء مما في كتبكم {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (خ) عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربيه لأهل الإسلام فقال النبي صلى الله عليه سلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية. قوله عز وجل {وكذلك} أي كما أنزلنا إليهم الكتاب {أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} يعني مؤمني أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وأصحابه {ومن هؤلاء} يعني أهل مكة {من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} وذلك أن اليهود عرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي والقرآن حق فجحدوا والجحود إنما يكون بعد المعرفة {وما كنت تتلو} يا محمد {من قبله من كتاب} معناه من كتب أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب {ولا تخطه بيمينك} يعني ولا تكتبه والمعنى لم تكن تقرأ ولم تكتب قبل الوحي {إذاً لارتاب المبطلون} معناه لو كنت تكتب أو تقرأ قبل الوحي إليك لارتاب المشركون من أهل مكة، وقالوا إنه يقرأه من كتب الأولين أو ينسخه منها وقيل المبطلون هم اليهود ومعناه أنهم إذاً لشكوا فيه واتهموك وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت {بل هو آيات بينات} يعني القرآن {في صدور الذين أوتوا العلم} يعني المؤمنين الذي حملوا القرآن وقال ابن عباس يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدون نعته وصفته في كتبهم {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} يعني اليهود {وقالوا} يعني كفار مكة {لولا أنزل عليه آية من ربه} أي كما أنزل على الأنبياء من قبل وقيل: أراد بالآيات معجزات الأنبياء مثل ناقة صالح ومائدة عيسى ونحو ذلك {قل إنما الآيات عند الله} أي هو القادر على إنزالها إن شاء أنزلها {وإنما أنا نذير مبين} إي إنما كلفت الإنذار وليس إنزال الآيات بيدي {أولم يكفهم أنا أنزلنا} هذا جواب لقولهم لولا أنزل عليه آية من ربه قال أول يكفهم أن أنزلنا {عليكم الكتاب يتلى عليهم} معناه أن القرآن معجزة أتم من معجزة من تقدم من الأنبياء لأن معجزة القرآن تدوم على ممر الدهور والزمان ثابتة لا تضمحل كما نزول كل آية بعد كونها {إن في ذلك} يعني القرآن {لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} أي تذكيراً وعظة لمن آمن به وعمل صالحاً {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} قال ابن عباس معناه يشهد لي أني رسوله والقرآن كتابه ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادة الله إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه {يعلم ما في السموات والأرض} أي هو المطلع على أمري وأمركم ويعلم حقي وباطلكم لا تخفى عليه خافية {والذين آمنوا بالباطل} قال ابن عباس: بغير الله وقيل بعبادة الشيطان وقيل بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل {وكفروا بالله}. فإن قلت من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد. قلت نعم فائدته أن ذكر الثاني لبيان قبح الأول فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق لبيان أن الباطل قبيح {أولئك هم الخاسرون} أي المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان. قوله عز وجل {ويستعجلونك بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث حيث قال {فأمطر علينا حجارة من السماء} {ولولا أجل مسمى} قال ابن عباس ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقيل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب وقيل يوم بدر {لجاءهم العذاب وليأتينهم} يعني العذاب، وقيل الأجل {بغتة وهم لا يشعرون} بإتيانه.
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} {يستعجلونك بالعذاب} أعادة تأكيداً {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي جامعة لهم لا يبقى منهم أحد إلا دخلها {يوم يغشاهم العذاب} أي يصيبهم {من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون} أي جزاء ما كنتم تعملون. قوله تعالى {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} قيل نزل في ضعفاء مسلمي أهل مكة يقول الله تعالى إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة فإنها واسعة آمنة، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الأية ولم يعذرهم بترك الخروج وقيل المعنى فهاجروا فيها أي فجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير: إذا علموا في الأرض بالمعاصي فاهربوا منها فإن أرضي واسعة وقيل إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيه بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى بلد تتهيأ له فيها العبادة وقيل معنى إن أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا {كل نفس ذائفة الموت} يعني كل أحد ميت خوفهم بالموت لتهون الهجرة عليهم فلا يقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت {ثم إلينا ترجعون} فنجزيكم بأعمالكم. قوله تعالى {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً} أي علالي جمع غرفة وهي العلية {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} أي لله بطاعته {الذين صبروا} على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم وقيل صبروا على الهجرة ومفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي {وعلى ربهم يتوكلون} أي يعتمدون على الله في جميع أمورهم. قوله عز وجل {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون «هاجروا إلى المدينة» فقالوا كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا بها ويسقينا فأنزل الله: وكأين من دابة لا تحمل رزقها أي لا ترفع رزقها معها لضعفها ولا تدخر شيئاً لغد مثل البهائم والطير {الله يرزقها وإياكم} حيث كنتم {وهو السميع} أي لأقوالكم {العليم} بما في قلوبكم عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ومعناه أنها تذهب أول النهار جياعاً ضامرة البطون وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعاً ممتلئة البطون ولا تدخر شيئاً قال سفيان بن عيينة ليس شيء من خلق الله يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة. عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس ليس من شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي» الروح: بضم الراء وبالعين المهملة هو القلب والعقل وبفتح الراء هو الخوف قال تعالى {فلما ذهب عن إبراهيم الروع} أي الخوف «أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته».
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} قوله عز وجل: {ولئن سألتهم} يعني كفار مكة {من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر} ذكر أمرين أحدهما: إشارة إلى اتحاد الذات والثاني إشارة إلى اتحاد الصفات وهي الحركة في الشمس والقمر {ليقولن الله فأنى يؤفكون} قيل معناه أنهم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع إقرارهم أنه خلق السموات والأرض {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده} لما ذكر الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الخلق بالزرق والله تعالى هو المتفضل بالرزق على الخلق فله الفضل والإحسان والطول والامتنان {ويقدر له} أي يضيق عليه إذا شاء {إن الله بكل شيء عليم} أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} ذكر سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله تعالى {قل الحمد لله} أي على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله تعالى: وقيل قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم بأنه خالق لهم {بل أكثرهم لا يعقلون} أي أنهم ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق هذه الأشياء. قوله تعالى {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} اللهو هو الاستمتاع بلذة الدنيا وقيل هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه واللعب هو العبث وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها وتقلبهم فيها وموتهم عنها كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها {لو كانوا يعلمون} فناء الدنيا وبقاء الآخرة لما آثروا الفاني على الباقي. قوله عز وجل {فإذا ركبوا في الفلك} معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك وخافوا الغرق {دعوا الله مخلصين له الدين} أي تركوا الأصنام ولجأوا إلى الله تعالى بالدعاء {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} أي عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والعناد. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب {ليكفروا بما آتيناهم} أي ليجحدوا نعمة الله في إجابته إياهم ومعناه التهديد والوعيد {وليتمتعوا} معناه لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع بما يستمتعون به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة {فسوف يعلمون} يعني عاقبة أمرهم ففيه تهديد ووعيد: قوله عز وجل {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطلف الناس من حولهم} يعني العرب يسبي بعضهم بعضاً وأهل مكة آمنون {أفبالباطل} يعني الشيطان والأصنام {يؤمنون وبنعمة الله يكفرون} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والإسلام يكفرون {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي فزعم أن له شريكاً فإنه منزه عن الشركاء {أو كذب بالحق} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} معناه أما لهذه الكافر المكذب مأوى في جهنم. قوله عز وجل {والذين جاهدوا فينا} معناه جاهدوا المشركين لنصر ديننا {لنهدينهم سبلنا} لنثيبنهم ما قاتلوا عليه. وقيل لنزيدنهم هدى وقيل لنوفينهم لإصابة الطرق المستقيمة وهي التي توصل إلى رضا الله تعالى. قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإن الله تعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقيل المجاهدة الصبر على الطاعات ومخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به وقال سهل بن عبدالله والذين جاهدوا فينا بإقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا {وإن الله لمع المحسنين} أي بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة في عقباهم في الآخرة وثوابهم الجنة والله أعلم.
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} قوله عز وجل {الم غلبت الروم في أدنى الأرض} سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن فارساً كانوا مجوساً أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً يقال له شهرمان وبعث قيصر رجالاً وجيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى بخين فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي آدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم فإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله هذه الآيات فخرج أبو بكر الصديق إلى كفار مكة فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله ليظهرن الروم على الفرس. أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال إليه أبي بن خلف الجمحي فقال كذبت: فقال أنت أكذب يا عدو الله فقال: اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه والمناحبة بالحاء المهملة القمار والمراهنة أراهنك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإذا ظهرت فارس على الروم غرمت وإذا ظهرت الروم على فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك قبل تحريم القمار. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادده في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيّاً فقال لعلك ندمت فقال لا فتعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين فقال قد فعلت فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه ولزمه وقال: إني أخالف أن تخرج من مكة فأقم لي ضماناً كفيلاً فكفله ابنه عبدالله بن أبي بكر فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبدالله بن أبي بكر فلزمه وقال والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد قال: ثم رجع أبي بن خلف إلى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه النبيّ صلى الله عليه وسلم حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين ومن مناحبتهم وقيل كان يوم بدر وربطت الروم خيولهم بالمدائن وبنوا بالعراق مدينة وسموها رومية فقمر أبو بكر أبيّاً وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل أن يحرم القمار فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم تصدق به» كان سبب غلبة الروم فارساً على ما قال عكرمة وغيره: أن شهرمان لما غلب الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم قال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهرمان إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس أخيك فرحان فكتب إليه أيها الملك إنك لم تجد مثل فرحان إن له لنكاية وصولة في العدو، فلا تفعل فكتب إليه إن في رجال فارس خلفاً عنه فعجل إليَّ برأسه فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريداً إلى أهل فارس إني قد عزلت عنكم شهرمان واستعملت عليكم فرحان ثم بعث مع البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهرمان. وقال إذا ولي فرحان الملك وانقاد له أخوه فأعطه الصحيفة، فلما وصل البريد إلى شهرمان عرض عليه كتاب كسرى فلما قرأه قال: سمعاً وطاعة ونزل عن سرير الملك وأجلس عليه أخاه فرحان فدفع البريد الصحيفة إلى فرحان فلما قرأها: استدعى بأخيه شهرمان وقدمه ليضرب عنقه فقال له لا تعجل حتى أكتب وصيتي قال نعم فدعا بسفط ففتحه وأعطاه ثلاث صحائف منه وقال كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت تريد قتلي بكتاب واحد فرد فرحان الملك إلى أخيه شهرمان فكتب إلى قيصر ملك الروم؛ أما بعد إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني في خمسين رومياً حتى ألقاك في خمسين فارسياً فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق مخافة أن يريد أن يمكر به حتى أتاه عيونه فأخبروا أنه ليس معه إلا خمسون فارسياً، فلما التقيا ضرب لهما فيها ديباج فدخلاها ومع كل واحد سكين ودعوا بترجمان يترجم بينهما فقال شهرمان: إن الذي خرب بلادك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد أن يقتل أخي فأبيت عليه ثم أمر أخي بقتلي فأبى عليه، وقد خلعناه جميعاً ونحن نقاتله معك فقال: قد أصبتما وأشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوزهما فشا. فقتلا الترجمان معاً بسكينيهما فأديلت الروم على فارس عند ذلك وغلبوهم وقتلوهم ومات كسرى جاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح ومن كان معه من المسلمين بذلك فذلك قوله عز وجل {الم غلبت الروم في أدنى الأرض} يعني أقرب أرض الشام إلى فارس وقيل هي أذرعات وقيل الأردن وقيل الجزيرة {وهم من بعد غلبهم} أي فارس لهم {سيغلبون} أي الروم لفارس.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} {في بضع سنين} البضع ما بين الثلاث إلى السبع وقيل إلى التسع وقيل ما دون العشر {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فمن غلب فهو بأمر الله تعالى وقضائه وقدره {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} أي الروم على فارس وقيل فرح النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وفرحوا بظهور أهل الكتاب على أهل الشرك {بنصر من يشاء} أي بيده النصر ينصر من يشاء {وهو العزيز} الغالب {الرحيم} أي بالمؤمنين قوله تعالى {وعد الله} أي وعد الله وعداً بظهور الروم على فارس {لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي أن الله لا يخلف وعده؛ ثم قال تعالى {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} يعني معاشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وقال الحسن إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه لا يخطئ وهو لا يحسن يصلي. وقيل: لا يعلمون الدنيا بحقيقتها إنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها وملاعبها ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها. وقيل يعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها {وهم عن الآخرة هم غافلون} أي ساهون عنها لا يتفكرون فيها ولا يعلمون بها.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} قوله عز وجل: {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} يعني لإقامة الحق {وأجل مسمى} أي لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة {وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون أولم يسيروا في الأرض} أي يسافروا فيها {فينظرو كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} أي ينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا {كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض} أي حرثوها وقلبوها للزراعة {وعمروها} يعني الأمم الخالية {أكثر مما عمروها} يعني أهل مكة {وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي فلم يؤمنوا فأهلكهم الله {فما كان الله ليظلمهم} أي بنقص حقوقهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي ببخس حقوقهم {ثم كان عاقبة الذين أساءوا} أي أساءوا العمل فاستحقوا {السوأى} يعني الخلة التي تسوءهم وهي النار وقيل السوء اسم لجهنم، ومعنى الآية أن عاقبة الذين عملوا السوء النار {أن كذبوا} أي لأنهم كذبوا وقيل معنى الآية ثم كان عاقبة المسيئين أن حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا {بآيات الله وكانوا بها يستهزئون} قوله تعالى {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} أي خلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء {ثم إليه يرجعون} أي فيجزيهم بأعمالهم {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} قيل: معناه أنهم ييأسون من كل خير وقيل: ينقطع كلامهم وحججهم وقيل يفتضحون {ولم يكن لهم من شركائهم} يعني أصنامهم التي عبدوها {شفعاء} أي يشفون لهم {وكانوا بشركائهم كافرين} أي جاحدين متبرئين يتبرؤون منها وتتبرأ منهم {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} أي يتميز أهل الجنة من أهل النار. وقيل يتفرقون بعد الحساب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار فلا يجتمعون أبداً فهو قوله تعالى {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة} أي في جنة وقيل الروضة البستان الذي هو في غاية النضارة {يحبرون} قال ابن عباس يكرمون وقيل يتنعمون ويسرون والحبرة السرور. وقيل في معنى يحبرون: هو السماع في الجنة. قال الأوزاعي: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم وقال: إذا أخذ السماع فلا يبقى في الجنة شجرة إلا وردته، وسأل أبا هريرة رجل: هل لأهل الجنة من سماع؟ فقال: نعم شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من فضة وثمارها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت يبعث الله ريحاً فيجاوب بعضها بعضاً فما يسمع أحد أحسن منه {وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} أي البعث يوم القيامة {فأولئك في العذاب محضرون} قوله تعالى {فسبحان الله} أي فسبحوا الله ومعناه صلوا لله {حين تمسون} أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء {وحين تصبحون} أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح {وله الحمد في السموات والأرض} قال ابن عباس يحمده أهل السموات والأرض ويصلون له {وعشيّاً} أي وصلوا لله عشيّاً يعني صلاة العصر {وحين تظهرون} أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر. قال نافع ابن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وقرأ هاتين الآيتين وقال: جمعتا الصلوات الخمس ومواقيتها. واعلم أنه خص هذه الأوقات بالتسبيح لأن أفضل الأعمال أدومها والإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أول النهار وفي أول الليل وآخره فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين وكذلك باقي الركعات وهي سبع عشرة ركعة مع ركعتي الفجر فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار بقي عليه سبع ساعات في جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته في التسبيح والعبادة.
فصل في فضل التسبيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زيد عليه» أخرجهما الترمذي وقال فيهما حسن صحيح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» وهذا الحديث أخرجه في صحيح البخاري (م) عن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعدما تعالى النهار فقال مازلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرار لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (م) عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه سلم فقال «أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه قال كيف يكتسب ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتف له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة» وفي رواية غير مسلم «يحط عنه أربعين ألفاً».
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} أي يخرج النطفة من الحيوان ويخرج الحيوان من النطفة. وقيل: يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة. وقيل يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن {ويحيي الأرض بعد موتها} أي بالمطر وإخراج النبات منها {وكذلك تخرجون} أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور للبعث والحساب {ومن آياته خلقكم من تراب} أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} أي تنبسطون في الأرض {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} أي جنسكم من بني آدم وقيل خلق حواء من ضلع آدم {لتسكنوا إليها} أي لتميلوا للأزواج وتألفوهن {وجعل بينكم مودة ورحمة} أي جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان من غير سابقة معرفة ولا قرابة ولا سبب يوجب التعاطف وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} أي في عظمة الله وقدرته {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم} أي اختلاف اللغات العربية والعجمية وغيرهما وقيل أراد أجناس النطق وأشكاله خالف بينهما حتى لا تكاد تسمع منطقين حتى لو تكلم جماعة من وراء حائط يعرف كل منهم بنطقه ونغمته لا يشبه صوت أحد صوت الآخر {وألوانكم} أي أسود وأبيض وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد ومن أصل واحد وهو آدم عليه السلام. الحكمة في اختلاف الأشكال والأصوات للتعارف أي ليعرف كل واحد بشكله وحليته وصوته وصورته فلو اتفقت الأصوات والصور وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وليعرف صاحب الخلق من غيره والعدو من الصديق والقريب من البعيد فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد. وفي ذلك دليل على سعة القدرة وكمال العظمة {إن في ذلك لآيات للعالمين} أي لعموم العلم فيهما {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} أي منامكم الليل للراحة وابتغاءكم من فضله وهو طلب أسباب المعيشة بالنهار {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} أي سماع تدبر واعتبار {ومن آياته يريكم البرق خوفاً} أي للمسافر ليستعد للمطر {وطمعاً} أي للمقيم ليستعد المحتاج إليه من أجل الزرع وتسوية طرق المصانع {وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون} أي قدرة الله وأنه القادر عليه {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} قال ابن عباس وابن مسعود قامتا على غير عمد وقيل يدوم قيامهما بأمره {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض} قال ابن عباس من القبور {إذا أنتم تخرجون} أي منها وقيل معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} مطيعون قال ابن عباس كل له مطعيون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} أي يخلقهم أولاً ثم يعيدهم بعد الموت للبعث {وهو أهون عليه} أي هو هين عليه وما من شيء عليه بعزيز وقيل معناه وهو أيسر عليه فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء وقيل: هو أهون على الخلق وذلك لأنهم يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء. وهو رواية عن ابن عباس {وله المثل الأعلى} أي الصفة العليا قال ابن عباس: ليس كمثله شيء وقيل هو الذي لا إله إلا هو {في السموات والأرض وهو العزيز} أي في ملكه {الحكيم} في خلقه.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)} قوله عز وجل: {ضرب لكم مثلاً} أي بين لكم شبهاً بحالكم ذلك المثل {من أنفسكم} ثم بين المثل فقال تعالى {هل لكم من ما ملكت أيمانكم} أي عبيدكم وإمائكم {من شركاء فيما رزقناكم} أي من المال {فأنتم فيه سواء} يعني هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم {تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر من شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمره دون شريكه ويخاف الرجل شريكه في الميراث وهو يحب أن ينفرد به. قال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً فإذا لم تخافوا هذا من مماليككم ولا ترضوه لأنفسكم فكيف ترضون أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي {كذلك نفصل الآيات} أي الدلالات والبراهين والأمثال {لقوم يعقلون} أي ينظرون في هذه الدلائل والأمثال بعقولهم {بل اتبع الذين ظلموا} يعني أشركوا بالله {أهواءهم} أي في الشرك {بغير علم} جهلاً بما يجب عليهم {فمن يهدي من أضل الله} أي عن طريق الهدى {وما لهم من ناصرين} أي مانعين يمنعونهم عن عذاب الله. قوله تعالى {فأقم وجهك للدين} يعني أخلص دينك لله وقيل سدد عملك والوجه ما يتوجه إلى الله تعالى به الإنسان ودينه وعمله مما يتوجه إليه ليسدده قوله تعالى {حنيفاً} أي مائلاً إليه مستقيماً عليه {فطرة الله} أي دين الله والمعنى الزموا فطرة {الله التي فطر الناس عليها} قال ابن عباس خلق الناس عليها والمراد بالفطرة الدين وهو الإسلام (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم قال اقرؤوا {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}» زاد البخاري «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسن فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا فطرة الله الآية ولهما في رواية «قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيراً قال الله أعلم بما كانوا عاملين» قوله: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة» يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله {ألست بربكم قالوا بلى} فكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وضعت الخلقة عليها وإن عبد غير الله قال الله تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} ولكن لا اعتبار بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى ألى قوله: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» فهو مع وجود الإيمان الفطري فإنه محكوم له بحكم أبويه الكافرين وهذا معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث آخر «يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» وحكي عن عبدالله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث أن كل مولود يولد على فطرته أي خلقته التي خلقه الله عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه على اعتقاد دينهما. وقيل معناه أن كل مولود في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرت على لزومها لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول السليمة وإنما يعدل عنه من عدل إلى غيره لأنه من آفات التقليد ونحوه فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ثم تمثل لأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة بقوله «كما تنتج بهيمة جمعاء». أي كما تلد البهيمة بهيمة مستوية لم يذهب من بدنها شيء وقوله «هل تحسون فيها من جدعاء يعني هل تشعرون أو تعلمون فيها من جدعاء وهي المقطوعة الأذن والأنف. قوله عز وجل {لا تبديل لخلق الله} أي لا تبدلوا دين الله وقيل معنى الآية الزموا فطرة الله ولا تبدلوا التوحيد بالشرك. وقيل معنى لا تبديل لخلق الله هو جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً. وقيل الآية في تحريم إخصاء البهائم {ذلك الدين القيم} أي المستقيم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل {منيبين إليه} أي فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل فيه الأمة والمعنى راجعين إلى الله تعالى بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة {واتقوه} أي ومع ذلك خافوه {وأقيموا الصلاة} أي داوموا على أدائها في أوقاتها {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} أي صاروا فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى وقيل هم أهل البدع من هذه الأمة {كل حزب بما لديهم فرحون} أي راضون بما عندهم. وقوله تعالى {وإذا مس الناس ضر} أي قحط وشدة {دعوا ربهم منيبين إليه} أي مقبلين إليه بالدعاء {ثم إذا أذاقهم منه رحمة} أي خصباً ونعمة {إذا فريق منهم بربهم يشركون}.
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)} {ليكفروا بما آتيناهم} ليجحدوا نعمة الله عليهم {فتمعتوا} فيه تهديد ووعيد خاطب به الكفار {فسوف تعلمون} أي حالكم هذه في الآخرة {أم أنزلنا عليهم سلطاناً} قال ابن عباس حجة وعذراً وقيل كتاباً {فهو يتكلم} أي ينطق {بما كانوا به يشركون} أي بشركهم ويأمرهم به {وإذا أذقنا الناس رحمة} أي الخصب وكثرة المطر {فرحوا بها} أي فرحوا وبطروا {وإن تصبهم سيئة} أي جدب وقلة مطر وقيل خوف وبلاء {بما قدمت أيديهم} من السيئات إذا {هم يقنطون} أي ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة ويرجوه عند الشدة {أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} تقدم تفسيره. قوله عز وجل {فآت ذا القربى حقه} أي من البر والصلة {والمسكين} أي حقه وهو التصدق عليه {وابن السبيل} أي المسافر وقيل الضيف {ذلك خير للذين يريدون وجه الله} أي يطلبون ثواب الله بما كانوا يعملون {وأولئك هم المفلحون} قوله عز وجل {وما آتيتم} أي أعطيتم {من ربا ليربوا في أموال الناس} أي في اجتلاب أموال الناس واجتذابها قيل في معنى الآية هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهو جائز حلال ولكن لا يثاب عليها في القيامة وهذا قوله {فلا يربو عند الله} وكان هذا حراماً على النبي خاصة لقوله تعالى {ولا تمنن تستكثر} أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت وقيل هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله لا يريد به وجه الله. وقيل: هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل ربح ماله لا لتماس عونه لا لوجه الله تعالى فلا يربو عند الله لأنه لم يرد بعمله وجه الله {وما آتيتم من زكاة} أي أعطيتم من صدقة {تريدون وجه الله} أي بتلك الصدقة {فأولئك هم المضعفون} أي يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات. قوله تعالى {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} تقدم تفسيره. قوله تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر} أي بسبب الشرك والمعاصي ظهر قحط المطر وقلة النبات في البراري والبوادي والمفاوز والقفار والبحر. قيل المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية والعرب تسمي المصر بحراً تقول: أجدب البر وانقطعت مادة البحر وقيل البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها والبحر هو المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر بخلو أجواف الأصداف من اللؤلؤ وذلك لأن الصدف إذا جاء المطر ترتفع على وجه الماء وتفتح أفواهها فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤاً {بما كسبت أيدي الناس} أي بسبب شؤم ذنوبهم وقال ابن عباس الفساد في البر قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة. قيل كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان البحر عذباً وكان لا يقصد البقر الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضها بعضاً. وقيل: إن الأرض امتلأت ظلماً وضلالة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث رجع راجعون من الناس وقيل أراد بالناس كفار مكة {ليذيقهم بعض الذي عملوا} يعني عقوبة الذي عملوا من الذنوب {لعلهم يرجعون} يعني عن الكفر وأعمالهم الخبيثة {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل} أي لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية {كان أكثرهم مشركين} يعني فأهلكوا بكفرهم.
|